الثلاثاء، مارس ٣٠، ٢٠١٠

لا حاجة للماء يا أمي ..


لا حاجة للماء يا أمي * ..



" أتذكر عيناه وهو بين يدي وليداً ، كان فيهما بريق غريب ، غريب في نقاءه وبراءته " ..
كانت تحادثني مبتسمه كأنما تسترجع لحظاتها تلك .. تقطعت كلماتها وحشرج صوتها بالبكاء

لابد أنكم سمعتم من قبل عن أم كان حب حياتها هو أحد ابناءها ، كان هو الهواء الذي تتنفسه ، بضع روحها فيه ، كيانها مذاب في كيانه ..
أسامه لم يكن هكذا فقط عندها .. كان كما يقولون " ابن عمرها " .. تعبير شعبي تقوله الأمهات على من كبر من بنيها وأخذ شبابها معه فكبرت وكبر هو معها ...

من الغريب أن يكتب أخ .. هذه الأمور عن أخيه .. قد تضعوا في اعتباراتكم غيرة الأخوة والتنافس على حب الأم ..
لكني وأسامه قصة أخرى .. لم يكن أخي الكبير ، كان وعاء جنوني ، وجنون ركودي وكسلي ، وكنت كما وصفني في مذكراته زهرة حياته وعبيرها ..

مات والدي عندما أتممت السادسة .. وكان أسامه في العاشرة
أخذني للمدرسة يومها يداً بيد .. وهكذا بقينا .. ذات التخصص ، ذات الكلية ، عمل واحد وتعبنا حتى أكملنا بيتنا للطابق الثالث حتى نتزوج فيه معاً والوالدة معنا ..
تزوجت أنا .. وآثر هو الذهاب بماله لتحج أمي ..
عاد .. في يديه هديه لكل منا .. وصفيح كبير ،، قرأ السؤال على وجهي فقال مبتسماً : هذا زمزم .. ولا تسأل لماذا
- وعلام زمزم بهذه الكمية ؟!! ابتلعت سؤالي وسط أحضانه وشوقي الجارف إليه
/

للدنيا مع قلوبنا حروب وحروب ، وعدتها حسام الذكريات وسهامها
/

القدس .. حبيبته التي رفض التنازل عن العيش فيها رغم الملايين التي عرضها الإحتلال عليه ليترك البيت
كان شاباً عادياً ، لم أشهد له مضايقات مع الاحتلال حتى الصغيرة التي لا يخلو اليوم منها ..مسالماً إلى حد كبير .. ولد وهو يعشق هذا المكان .. كان يخبرني أن ذرات الهواء هنا تختلف عن أي مكان آخر .. حبات التراب لها رائحة المسك .. ويردف بقوله المعتاد " بلا مبالغة والله !"

لا أنسى مكانه المحبب فوق سطح بيتنا القابع على تله حيث نرى أغلب القدس من هناك .. قد يغفو أحيانا بالأعلى .. وعندما ينزل أقابله بسخرية من رومانسيته الزائدة .. أحاول اقناعه أن هناك من المخلوقات غير القدس من يصلحون لحبه الكبير هذا من نوعية بني آدم ..

كنت أشفق على أمي فقط التي تتمنى زواجه ورؤية أحفاده وقد شارف الثلاثين .. لم تكن تتمنى من الدنيا شيئا بعدها
لا أدري سر تأخره عن إجابة طلبها ولم أعتد منه هذا ..
أضاقت قلوب النساء لتستوعب سر روحه ؟! ..

الآن أقول أن هذا ممكنا .. بل لعله هكذا فعلا

ذات يوم تلقيت اتصال من صديقه علاء لأوافيهم في المشفى فقد أصيب أسامه أثناء مروره بأحد المظاهرات .. كان أخي شديد الحساية للدخان رغم قوته الجسدية .. قنبلة واحدة مسيلة للدموع كافية بإسقاطه أرضاً
هرعت إليه يومها .. فقابلني بابتسامة وإحدى عيناه لا تكاد تفتح ..
- لا تشعرني أنك أمي بهذا القلق .. أنا بخير
لكزتُه ضاحكاً .. في هذه الأمور أشعر أني المسؤول عنك وإن كنتَ الكبير !
أصر عليّ ألا أخبر أمي .. وإن كنا نسكن القدس إلا أن حياتنا هادئة الطبع في أغلبها .. على الأقل حينئذ !

يألــله .. /

أتذكر فرحه كالطفل عندما وُلد ابني محمد .. وأصر ان يسميه محمداً .. كنت أعلم أنه تيمنا باسم والدي رحمه الله
بالرغم أنه لا يذكر والدي إلا نادرا .. لكني لم اخطئ يوما في عينيه الحنين إليه كلما ذُكر ..
لا أذكر أنه غضب عليّ في يوم .. إلا في مرة ألححت عليه في السؤال عن والدي واتهمته بالأنانية وأنه لا يريد أن يحدثي عنه وكيف كان معه ..
رأيت في عينيه العتاب والغضب .. لكنه لم ينطق ، واكتفى بالخروج
قررت من يومها ألا أسأله ثانيةً .. وإن أردت فسأسأل امي
/
أي من تفاصيلك الصغيرة أنساها يا أسامه ,, كيف لي .. وقد نقشتك ها هنا .. في صحاف قلبي بين الضلوع وفي دمي في عمق روحي ..
ليتني قبل ذاك اليوم كنت نسياً يا أخي ..
كانت حياتي نهراً عذباً راق يجري على مهل .. حتى أوقفتني دقات ذلك الباب
كان محمد يا أسامه .. يبكيك .. جثوت لأضمه وأهدئ من روعه وهو يشد ملابسي ويدق على صدري لا يستطيع النطق من هول بكاه
/

بعض الأيام تقاس بالسنين .. كذلك اليوم
/

جلست في غرفته أتأمل أغراضه .. بينما يقلبون وسط الركام عنه .. رقدت على سريره ، تخيلته يضمني عندما يؤذيني شيء ، تذكرت موت والدي وهو لم يفلتني من ذراعه .. تحت وسادته لامست أصابعي ورقه ، أغمضت عيناي رجاء ألا تكون ما أعلم ... وكانت ولابد .. وصيته ..
رآني محمد ذو العاشرة .. كنت بلا حراك اتأمل الورقة فحسب .. أخذها من يدي وجعل يقرأها ، سطور كثيرة لم أعي منها شيئ
- :" عمر ، أوصيك بأمي خيراً ، كذا زوجتك وأولادك ، لا يحملنك حزنك علي أن تدع ما أوكلك الله به .."
تتقلب عيني في الغرفة حتى تلاقت مع " الزمزم "
- :" أما من يقف على غسلي فأرجو ان يكون أنت .. غسلني بزمزم التي اكتنزتها لهذا اليوم " ..
/
لم أبكي مذ وصلني الخبر ، لكني عجزت حينها يا أسامه .. لم استطع إلا أن أكون الصغير الذي يحتاج يدك تؤازره
كنت عضدي يا أخي .. كنت تحسب لكل شيء حسابه ، أكتنزلت من البشر من يكن لي كما كنت ؟!! ..
/

فر محمد بالوصية لجدته .. وبقيت كاليتيم .. يومها تيمت للمرة الثانية ، والثانية أقسى وأشد

اتصل بي رقم غريب .. كان صوتي لا يكاد يبين .. لكن صوته كان مثقلا بالقوة
- إياك ان تبكي...
كان يشبه أخي في قوة روحه و تأثير كلماته .. فكأنه ألقمني حجراً ..

انهى اتصاله وهرعت للمكلومة في أعز ما تملك
فبادرتني تهز بيديها العجوز أوراق وصيته والدموع تحار في عينيها كمن يُوجِدْ قضية يرافع فيها عن حزنه في محكمة حكمها صادر سلفاً
– هه .. ألهذا أتى معه بزمزم ؟!!

انكببت أضمها وأقبل رأسها والضحك يغالب البكاء – لا حاجه للماء يا أمي ..

شهيداً مات .. شهيداً مات يا أم أسامه
ومعه ثلاث وعشرون مقعداً في الجنة يختار أيها شاء
_ _ _

صاحبته في كل شيء وكان يخيل إلي أني ألحقه وليس بيني وبينه سوى أربع أعوام أستطيع تجاوزها ببعض المجازفة ..
أتسائل الآن يا أسامه وقد مضى عام .. متى يُكتب لي اللحاق بك ..
وإني لأدرك يا شق روحي أني لا استطيع أبدا .. يوم ارتقيت توقف السباق
وسأُظل أنا أسابق الزمن ، علني أصل لدرجة ما تستطيع ان تراني فيها وكعادتك تشفع لي وتصاحبني كما كنا ..

سلام على روحك ،،




شهيــدة

______
* لأهل القدس .. في يوم الأرض



هناك تعليقان (٢):

غير معرف يقول...

هذه التدوينة تأسرني, دقّقتها لغويًا, وحفظتها في جهازي.

بارك الله فيك

:)

شهيدة يقول...

حبذا لو بعثتم بالتدقيق اللغوي ، كونه جانب غالبا ما اقصر فيه